فصل: الفصل الحادي والعشرون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل الثامن عشر ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أيها المشغول باللذات الفانيات، متى تسعد لملمات الممات‏؟‏ متى تستدرك هفوات الفوات‏؟‏ أتطمع مع حب الوسادات في لحاق السادات‏؟‏ وأنى تجعل مثلهم‏؟‏ أنى، وهيهات‏.‏

يا مدمن اللذات ناس غـدرهـا*** اذكر تهجم هـادمِ الـلـذاتِ

احذر مكايده فهـن كـوامـنٌ*** في كرك الأنفاس واللحظـات

تمضي حلاوة ما احتبقت وبعده*** تبقى عليك مرارة التبـعـات

يا حسرة العاصين يوم معادهم*** ولو أنهم سيقوا إلى الجـنـات

لو لم يكن إلا الحياء من الـذي*** ستر الذنوب لأكثروا الحسرات

يا عظيم الجرأة يا كثير الانبساط، ما تخاف عواقب هذا الإفراط‏؟‏ يا مؤثر الفاني على الباقي غلطة لا كالأغلاط، ألك صبر يقاوم ألم السياط‏؟‏ ألك قدم يصلح للمشي على الصراط‏؟‏ أيعجبك لباس الصحة‏؟‏ كلا، وثوب البلا يخاط بداء المتون، داء أعيى على بقراط‏.‏ كم رحل الموت‏؟‏ على غارب اغتراب، كم ألحق ترباً بالأتراب في سفر التراب، إنما الموت مخرنبق ليقول، ومجرمز ليغول‏.‏

وكم من فتى يمسي ويصبح آمناً *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

يا شدة الوجل عند حضور الأجل، يا حسرة الفوت عند حضور الموت، يا خجلة العاصين يا أسف المقصرين‏.‏

للحجاج‏:‏

إلى حتفي سعى قدمي *** أرى قدمي أراق دمي

فما انفـك مـن نـدم *** وهان دمي فها ندمي

استلب زمانك يا مسلوب‏!‏ وغالب الهوى يا مغلوب‏!‏ وحاسب نفسك فالعمر محسوب، وامسح قبيحك فالقبيح مكتوب، واعجباً لنائم وهو مطلوب، ولضاحك وعليه ذنوب‏.‏

ألا ذكِّراني قبل أن يأتي الـمـوتُ*** وبيني لجثماني بدار البلـى بـيتُ

وعرفني ربي طريق سـلامـتـي*** وبصَّرني لكنني قـد تـعـامـيتُ

وقالوا مشيب الرأس يحدو إلى البلى*** فقلت أراني قد قربـت فـأدنـيت

أين الدموع السواجم‏؟‏ قبل المنايا الهواجم، أين القلق الدائم‏؟‏ للذنوب القدايم، أترى آثرت الملاوم‏؟‏ في هذه الأقاوم، أيها القاعد والموت قائم أنائم أنت عن حديثنا أم متناوم‏؟‏ لا بد والله من ضربة لازم، تقرع لها سن نادم، لا بد من موج هول متلاطم، ينادي فيه نوح الأسى لا عاصم، لا بد من سقم السالم ينسى فيه يا أم سالم‏.‏

يا من سينأى عن بنيه*** كما نأى عنه أبـوه

مثل لنفسك قولهـم*** جاء اليقين فوجهوه

وتحللوا من ظلمـه*** قبل الممات وحللوه

يا مؤخراً توبته بمطل التسويف ‏"‏لأي يومٍ أُجِّلتْ‏"‏ كنت تقول إذا شئت تبت فهذي شهور الصيف عناقد انقضت، قدر أن الموت لا يأتي إلا بغتة‏!‏ أليس مرض الموت يبغت‏؟‏ ويحك قد نفذ السليط، فاستدرك ذبالة المصباح، في كل يوم تضع قاعدة إنابة، ولكن على شفا جرف هار، كم تعزم على طاعة وتوبة، يا ليلى الهوى ما تبصر توبة، تبيت من العزم في شعار أويس، فإذا أصبحت أخذت طريق قيس تنقض عرى العزايم عروة عروة، كل صريع في الهوى رفيق عروة، كم تدفن كثيراً من الأعزة‏؟‏ وما يرجع كثير عن حب عزة‏.‏

جنونك مجنون ولست بواجد *** طبيباً يداوي من جنون جنون

خلق قلبك صافياً في الأصل، وإنما كدرته الخطايا، وفي الخلوة يركد الكدر، تلمح سبب هذا التكدير، فما يخفى الحال على متلمح، كنت مقيماً في دار الإنابة نظيفاً، فسافرت في الهوى فعلاك وسخ، أفلا تحن إلى النظافة‏؟‏ ألا يحرك البدوي ذكر نجد‏؟‏ طال مرضك واليوم بحران، أتدري ما البحران‏؟‏ تجتمع القوة والمرض فيختصمان، فإن تحلبته جاءت العافية، وإن تحلبها فالهلاك، هذه ساعة بحرانك، والعقل يقاوم الهوى، فانظر من يغلب‏؟‏ واعجباً كيف يستأسر أسد لثعلب‏؟‏ يا مستهاناً في خدمة النفس، اخرج إلى ديار القلب تعز، الفيلة في الهند عوامل تنقل رجال القوم وتخدمهم، فإذا خرجت إلى من يعرف قدرها‏.‏ أكرمت، العود في بلاده خشب، فإذا سوفر به إلى طالب الطيب أعز، تفاح أصبهان في بلده فاكهة، فإذا جيء به إلى العراق، دل على الطباع اللطيفة بريحه‏.‏ الفهد في الصحراء بهيمة، فإذا وقع بيد من يعرفه، غضب فيترضى، البازي في البرية طائر، فإذا صيد فسريره كف الملك‏.‏

يا مختار الكون وما يعرف قدر نفسه، أما أسجدت الملائكة بالأمس لك‏؟‏ وجعلتهم اليوم في خدمتك، لما تكبر عليك إبليس، وقد عبدني سنين طردته، أفتصافيه على خلافي‏؟‏ ‏"‏أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني‏"‏ أنا القائل قبل وجود أبيك للملائكة ‏"‏إني جاعلٌ في الأرض خليفة‏"‏ اطلعوا من خوخات تعبدكم، فانظروا ما أصنع‏؟‏ أخذت قبضة من تراب، فصببت عليها قطرات من ماء ‏"‏مرج البحرين يلتقيان‏"‏ قال التراب والماء‏:‏ وأي قدر لنا‏؟‏ فنزل دار تواضعهما عزيز ‏"‏ونفخت فيه من روحي‏"‏ فانضم صدف بحر البدن على در القلب، فانعقد فصار عرشاً لصفة ‏"‏ويسعني‏"‏‏.‏

خلا المثقف بالطفل داخل البيت، فسطر في لوح سره العلم ‏"‏كتب في قلوبهم الإيمان‏"‏ وأخرجه يوم التخيير وقد حذق المكتوب ‏"‏فقال أنبئهم بأسمائهم‏"‏ ثم قيل له، لا يحتمل موضع الخلع، وجوده ذر البذر، فاخرج إلى عالم الطبع، أكلت يا دودة القز، فاذهبي إلى الغزل، وتشاغلي بالنسج، فنزل إلى دار المجاهدة، فظهر من ثمرة شجرته، صبر الخليل، وثبوت الذبيح، وجهاد يوسف، وكمال محمد صلى الله عليه وسلم، ثم جاء أولياء في هذه الدولة، فخجلت عند زهدهم الرهبة، لا بل سبقوا تعبد الملائكة، قال سري‏:‏ ما فاتني ورد قط فقدرت على إعادته، وذاك أن الزمان الذي مضى فيه وظيفة أخرى‏.‏

ما لي شغل سواه ما لي شغـل *** ما يصرف عن هواه قلبي عذل

ما أصنع إن جفا وخاب الأمـل *** مني بدل ومنه مـا لـي بـدل

كانت رابعة العابدة، تقوم من أول الليل، وتقول‏:‏

قام المحب إلى المؤمل قومه *** كاد الفؤاد من السرور يطير

فإذا انقضى الليل، صاحت‏:‏ واحرباه، واسلباه‏.‏

ذهب الظلام بأنسه وبألفه *** ليت الظلام بأنسه يتجدد

دخلوا على زجلة العابدة، فكلموها في الرفق بنفسها، فقالت‏:‏ والله لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي‏.‏ ولأبكين ما حملت الماء عيناي‏.‏

لا أقبل نصحكم فخلوا عـذلـي *** ما أعذب في الغرام طعم القتل

إن طل دمي فكم محب مثلـي *** قد ضرج باللحاظ لا بالنـبـل

أين أنت والأحباب‏؟‏ كم بين القشور واللباب‏؟‏ لصردر‏:‏

هل مدلج عنده من مبكر خبر *** وكيف يعلم حال الرائح الغادي

يا معجباً بتعبده، تأمل فضائل السابقين، وقد هدرت شقاشق كبرك النظر في سيرهم قرظ يجفف عفن الرعونة، مضى والله هل المعاني، وتخلف أرباب الدعاوي‏.‏

هاتيك ربوعهم وفيها كانوا *** بانوا عنها فليتهم ما بانوا

ناديت وفي حشاشتي نيران *** يا قوم متى تحول السكان

الفصل التاسع عشر ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

عجباً لراحل مات وما تزود للرحلة، ولمسافر ماج وما جمع للسفر رحلة، ولمنتقل إلى قبره لم يتأهب للنقلة، ولمفرط في أمره لم يستشر عقله‏.‏

لصردر‏:‏

لا مرية في الردى ولا جـدلُ*** العمر دين قضـاؤه الأجـلُ

للمرء في حتف أنفه شـغـل*** فما تريد السـيوف والأسـلُ

يفرى الدجى والضحى بأسلحة*** سيان فيها الدروع والحـلـلُ

كأس أديرت على لـذاذتـهـا*** عُدّل فيها الزعاف والعسـلُ

كل إلـى غـاية يصـير ولا*** تمييز إلا الإسراع والمَـهَـلُ

والناس ركب يهوون حثـهـم*** ولا يُسـرُّون أنـهـم نـزلُ

وسوف تطوى مسافة ذملـت*** بقاطعـيهـا ركـائب ذلـلُ

كيف يعد الدنيا لـه وطـنـاً*** من هو عنها ينأى وينتـقـلُ

نسخو بأعمارنا ونبـخـل بـا*** لمال فتبَّ السخاء والبـخـلُ

أضاع راقي الداء العضال كما*** ضيع في سمع عاشق عـدَلُ

ولو نجا الهائب الجبـان مـن*** الموت نجا في أقدامه البطلُ

ما أسلموا هذه النفـوس إلـى*** الأجداث إلا إذا ضاقت الحيلُ

ضرورة ذلت القـروم لـهـا*** وقد تقود المصاعب الجـدلُ

ومن حذار تبوأ الكدية الضب*** وأوفى الشواهـق الـوعـل

يقاد في عزه الخبعثنة الضـا*** ري ويدهي في ذله الجُعَـلُ

وهل يردُّ الأحباب أن ظعنـوا*** على محب أن يندب الطلـلُ

أخواني، مر الأقران على مدرجة، وخيول الرحيل للباقين مسرجة سار القوم إلى القبور هملجة وباتت أرواح من الأشباح مستخرجة، إلى كم هذا التسويف والمجمجة‏؟‏ بضائعكم كلها بهرجة، وطريقكم صعبة عوسجة، وستعرفون الخبر وقت الحشرجة‏.‏

يا من قد ساخ في أوساخ، إلى كم تملى‏؟‏ تعبت النساخ، يا من ضيع الشباب، وما يسمع العتاب وقد شاخ، بادر صبابة القوى، فاستدرك باقي الطباخ، وتأهب للرحيل فما هذه الدنيا بمناخ، كم بات مزمار في بيت فأصبح فيه الصراخ، أين من حصن الحصون واحترس وعمر الحدائق واحترس، ونصب سرير الكبر وجلس، وظن بقاء للنفس فخاب الظن في نفس، نازله الموت، وتركه في ظلام ظلمة بين العيب والدنس، فالعاقل من بادر الندامة، فإن السلامة خلس‏.‏

لابن المعتز‏:‏

ألا من لقلب في الهوى غير منـتـه *** وفي الغي مطواع وفي الرشد مكره

أشـاوره فـي تـوبة فـيقــول لا *** فإن قلت تأتي فتنة قال‏:‏ أين هـي‏؟‏

سابقة القدر قضت لقوم بدليل ‏"‏سبقت لهم‏"‏ وعلى قوم بدليل ‏"‏غلبتْ علينا‏"‏ تلقيح ‏"‏سبقت‏"‏ نور قلوب الجن ‏"‏فقالوا سمعنا قرآناً عجبا‏"‏ وخذلان ‏"‏غلبت‏"‏ أعمى بصائر قريش ‏"‏فقالوا أساطير الأولين‏"‏ إذا هزت صوارم القدر، تقلقلت رقاب المقربين غضب على قوم فلم تنفعهم الحسنات، ورضي عن قوم فلم تضرهم السيئات، ما نفعت عبادة إبليس، ولا ضر عناد السحرة‏.‏

هبت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان، فنقلت الوجود وعم الخبر، فلما ركدت الريح، إذا أبو طالب غريق في لجة الهلاك وسلمان على ساحل السلامة، والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه، وصهيب قد قدم بقافلة الروم، وأبو جهل في رقدة المخالفة، وبلال ينادي الصلاة خير من النوم، لما قضيت في القدم سلامة سلمان، أقبل يناظر أباه في دين قد أباه، فلم يعرف أبوه جواباً إلا القيد، وهذا الجواب المرذول قديم من يوم ‏"‏حرقوه‏"‏ فنزل به ضيف ‏"‏ولنبلونكم‏"‏ فنال بإكرامه مرتبة ‏"‏سلمان منا‏"‏ سمع أن ركباً على نية السفر، فسرق نفسه من حرز أبيه، ولا قطع، فوقف نفسه على خدمة الأدلاء وقرف الأذلاء، فلما أحس الرهبان بانقطاع دولتهم، سلموا إليه أعلام الأعلام على علامات نبينا، وقالوا أن زمنه قد أظل فاحذر أن تضل، وأنه يخرج بأرض العرب، ثم يهاجر إلى أرض بين حرتين، فلو رأيتموه قد فلى الفلا والدليل شوقه، وخلى الوطن خلاء يزعجه توقه‏.‏

لأبي العلاء المعري‏:‏

وأبغضت فيك النخل والنخل يانـع *** وأعجبني من حبك الطلح والضال

وأهوى لجراك السماوة والغضـا *** ولو أن ضيفـيه وشـاة وعـذال

رحل مع رفقة لم يرفقوا ‏"‏فشروه بثمن بخس‏"‏ فابتاعه يهودي بالمدينة، فلما رأى الحرتين توقد خَرُشَوْقه، وما علم المنزل بوجد النازل‏.‏

للمتنبي‏:‏

أيدري الرَّبع أيّ دم أراقـا‏؟‏ *** وأيَّ قلوب هذا الركب شاقى

لنا ولأهلـه أبـداً قـلـوب *** تلاقي في جسومٍ ما تلاقـى

فبينا هو يكابد ساعات الانتظار، قدم البشير بقدوم البشير وسلمان في رأس نخلة، فكاد القلق يلقيه، لولا أن الحزم أمسكه، كما جرى يوم ‏"‏أن كادت لتبدي به‏"‏ ثم عجل النزول، ليلقى ركب السيارة‏.‏

خليلي من نجد قفا بي على الربى *** فقد هب من تلك الرسوم نسـيم

فصاح به المالك‏:‏ مالك ولهذا‏؟‏ انصرف إلى شغلك، فأجاب لسان وجده، كيف انصرافي ولي في داركم شغل فاخذ يضربه، فأخذ لسان حاله يترنم، لو سمع الأطروش‏.‏

خليلي لا والله ما أنا منكما *** إذا علم من آل ليلى بداليا

فلما لقي الرسول عرض نسخة الرهبان بكتاب الأصل، فوافق ووافق، يا محمد أنت تريد أبا طالب ونحن نريد سلمان، أبو طالب إذا سئل عن اسمه، قال عبد مناف، وإذا انتسب افتخر بالآباء، إذا ذكرت الأموال عد الإبل، وسلمان، إذا سئل عن اسمه قال عبد الله وعن نسبه، قال ابن الإسلام، وعن لباسه قال التواضع، وعن طعامه قال الجوع، وعن شرابه قال الدموع، وعن وساده قال السهر، وعن فخره قال ‏"‏سلمان منا‏"‏ وعن قصده، قال‏:‏ ‏"‏يريدون وجهه‏"‏‏.‏

للشبلي‏:‏

إن بيتاً أنت سـاكـنـه*** غير محتاج إلى السرج

وعـلـيلاً أنـت زائره*** قد آتاه الله بـالـفـرج

وجهك المأمول حجتنـا*** يوم يأتي الناس بالحجج

الفصل العشرون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا من يمشي على ظهور الحفر، ويرى السابقين إلى بيوت المدر، لو أصغى سمع التدبير، سمع العبر، كفى بالموت واعظاً يا عمر‏.‏

لأبي العتاهية‏:‏

وعظتْكَ أجداثٌ ضمت*** ونعتك أزمنة خـفـت

وتكلمتْ عن أعـظـم*** تبلى وعن صور شتت

وارتك قبرك في القبور*** وأنت حيٌّ لم تـمـتْ

يا سادراً في سكر سروره، يا سادلاً ثوب غروره، كأنك بك قد اقتعدت غارب الغربة، واستبدلت بالأثواب التربة، سيقسم مالك من لا يحمدك، وستقدم على من لا يعذرك، غداً يرجع الحبيبان عنك، حبيبك من أهلك يقسم حبيبك من مالك، وأنت في قفر الفقر إلى ما أسلفت، تبكي على ما خلفت، بين أناس كلهم أسير الفرق، وجميعهم على مهاد القلق‏.‏

محلة سفر كـان آخـر زادهـم *** إليه متاع من حنوط ومن خرق

إلى منزل سوى البلى بين أهلـه *** فلم تستبن فيه الملوك من السوق

إلى متى تبقى بدائك‏؟‏ أهذا الذي تفعله برائك‏؟‏ لقد حل فناؤك بفنائك، وأخبر انتقاض بنائك بنمائك، وأن وراءك طالباً لا تفوته، وقد نصب لك علم لا تجوز، فما أسرع ما يدركك الطالب، وما أعجل ما تبلغ العلم، أخواني، هذا الموت غداً، يقول للرحيل غد، كيف بكم إذا صاح إسرافيل‏؟‏ في الصور بالصور، فأسمع العظام البالية تحت المدر، فاجتمعت من بطون السباع، وحواصل الطير، فقامت تبكي على فوات الخير، وسار الخلائق كلهم حفاة عراة، كل منهم مشغول بما عراه، وقد رجت الأرض وبست الجبال، وذهلت العقول وشاب الأطفال‏.‏

أيا نفس حقك أن تجزعـي*** ويا عين إياك أن تهجعـي

ويا أذن إن دعاك الـهـوى*** فإياك إياك أن تسمـعـي

وبالله يا جفن عيني القـريح*** ضرج بفيض الدما أدمعي

ويا كل جارحة لي علـيك*** حفيظ فابكي ونوحي معيد

يسير بنا الدهر من موضع*** ترحل عنه إلى مـوضـع

إلى حيث لا العين فيه ترى*** ولا الأذن إن خاطبوها تعي

فيا ويلنا من طريق هنـاك*** طويل بعيد المدى مسبـع

يا أهل الذنوب والخطايا ألكم صبر على العقوبة‏؟‏ ‏"‏كلا إنها لظى‏"‏ إذا شاهدت من اشترى لذة ساعة بعذاب سنين ‏"‏تكاد تميَّز من الغيظ‏"‏ من أراد أن ينجو منها فليتب ‏"‏من قبل أن يتماسا‏"‏ كيف أمن العصاة‏؟‏ ‏"‏وإن منكم إلا واردها‏"‏ كيف نسوا غب الزلل‏؟‏ ‏"‏ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏"‏‏.‏

أخواني، مثلوا أهل الجنة ‏"‏يوم نحشر المتقين‏"‏ ‏"‏ونورهم يسعى بين أيديهم‏"‏ ومعهم توقيع ‏"‏لا خوفٌ عليهم‏"‏ فلما وصلوا إلى الجنان ‏"‏وفُتحت أبوابها‏"‏ وبدأهم الخزنة ‏"‏سلام عليكم طبتم‏"‏ وبشروهم بالبقاء الدائم ‏"‏فادخلوها خالدين‏"‏ وقرأت الأملاك من سجل الأملاك مبلغ الثمن ‏"‏بما صبرتم‏"‏ وجميع المرادات داخلة في إقطاع ‏"‏ما تشتهي أنفسكم‏"‏ وقد استرجح في الميزان ‏"‏ولدينا مزيد‏"‏ وأتم التمام ‏"‏وما هم منها بمخرجين‏"‏‏.‏

وهذا السرور بتلك الكرب *** وهذا النعيم بذاك التعـب

ويحك ميز بعقلك وحسك بين الدارين، وأحضر الذنب والعقاب والمح العاقبتين، هذا الحيوان البهيمي ينظر في العواقب، الإبل يأكل الحيات فيشتد عطشه فيحوم حول الماء ولا يشرب لعلمه أن الماء ينفد السموم إلى أماكن لا يبلغها الطعام، ومن عادته أن يسقط قرنه كل سنة وهو سلاحه فيختفي إلى أن ينبت، هذه الحية، تختفي طول الشتاء بالأرض، فتخرج وقد عشى بصرها، فتحكه بأصول الرازايانج لأنه يزيل العشا، هذا الفهد إذا سمن علم أنه مطلوب وشحمه يمنعه من الهرب فهو يستر نفسه إلى أن ينحل الشحم، هذه النملة تدخر في الصيف للشتاء، فإذا خافت عفن الحب أخرجته إلى الهواء فإذا حذرت أن ينبت نقرت موضع القطمير‏.‏

أسمعت يا مقطوع الحيلة‏؟‏ متى تدخر من صيف قوتك إلى شتاء عجزك‏؟‏ هذه السمكة إذا حبستها الشبكة جمزت بكل قوتها لتقطع الحابس، لو نهضت بقوة العزم لانخرقت شبكة الهوى، إذا مد النهر اغتنمت ذلك المد الزنابير، فبنت منه بيوتاً لأنه لا يصلح لها غيره، مد بحر الشباب وما بنيت بيت جد، فحدثني ما الذي تصنع في القحل‏؟‏ إن فاتك زمن المد، فمد اليد للسؤال حيلة المفلس‏.‏

يا محصراً عن الوصول لا يجزيه الهدى، يا منقطعاً في الطريق عن جملة الوفد، تحامل إلى بعض خيم أهل الوصل، واشهد على وصيتك ذوي عدل، وناد في النادي بصوت الذل‏.‏

إذا ما وصلتم سالمين فبـلِّـغـوا *** تحيةً من قد ظن أن لا يرى نجداً

وابسط في الدجى يد الطلب، فأطيب ما أكل الرجل، من كسب يده، وقل بلسان التملق‏:‏

أحبابنا أنا ذاكم العبـد الـذي *** راعيتموه نـاشـئاً وولـيداً

حالت به الأحوال بعد فراقكم *** فرمى بأسرته وجاء فـريدا

إذا جلست في ظلام الليل بيد يدي سيدك فاستعمل أخلاق الأطفال، فإن الطفل إذا طلب من أبيه شيئاً فلم يعطه يكن عليه‏.‏

بلغ المنى من حل في وادي منى *** غيري فإني ما بلغت مـرادي

وبكيت من ألم الفراق وشقوتـي *** فبكى الحجيج بأسره والـوادي

يا من قد نزلت به بلية الطرد، تروح إلى حديث المناجاة وإن لم تسمع منك، وابعث رسائل الأحزان مع رياح الأسحار ولو لم تصل‏.‏

يا نسيم الشمال بلـغ خـطـابـي *** واشف مني الجوى بحمل الجواب

طفت بساحات ذلك الربع واحمل *** ذرة من تراب ذاك الجـنـاب

قل لمولاي يا منى الروح والقلب *** ومن فيه ذلتي وانـتـحـابـي

كنت أخشى الوشاة فيك ولـكـن *** جفوة الحب لم تكن في حسابي

الفصل الحادي والعشرون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا ساعياً لنفسه في المهالك، دنا الرحيل ونضو النقلة بارك، متى تذكر وحشتك بعد إيناسك‏؟‏ متى تقتدي من ناسك بناسك‏؟‏ كأنك بك قد خرجت عن أهلك وولدك، وانفردت عن عددك وعددك، وقتلك بسيف الندم ولم يدك، ورحلت ولم يحصل بيدك إلا عض يدك‏.‏

كأنك لم تسمع بأخبار من مـضـى*** ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر

فإن كنت لا تدري فتلـك ديارهـم*** محاها مجال الريح بعدك والقطر

على ذاك مروا أجمعون وهـكـذا*** يمرون حتى يستردهم الـحـشـر

فحتام لا تصحو وقد قرب المـدى*** وحتام لا ينجاب عن قلبك السكـر

بل سوف تصحو حين ينكشف الغطا*** وتذكر قولي حين لا ينفع الذكـر

يا من يذنب ولا يتوب، كم قد كتبت عليك ذنوب‏؟‏ خل الأمل الكذوب، فرب شروق بلا غروب، وا آسفي أين القلوب‏؟‏ تفرقت بالهوى في شعوب، ندعوك إلى صلاحك ولا تؤوب، واعجباً الناس ضروب، متى تنته لخلاصك أيها الناعس‏؟‏ متى تطلب الأخرى يا من على الدنيا ينافس‏؟‏ متى تذكر وحدتك إذ انفردت عن موانس‏؟‏ يا من قلبه قد قسا وجفنه ناعس، يا من تحدثه الأماني دع هذه الوساوس‏.‏

أين الجبابرة الأكاسرة الشجعان الفوارس، أين الأسد الضواري والظباء الكوانس، أين من اعتاد سعة القصور حبس من القبور في أضيق المحابس، أين الرافل في أثوابه عري في ترابه عن الملابس، أين الغافل في أمله عن أجله سلبه كف المخالس، أين حارس المال، أخذ المحروس وقتل الحارس‏.‏

يا مضمراً حب الدنيا إضمار الجمل الحقود، نبعث منقاش اللوم وما يصل إلى شظايا المحبة، الدنيا جيفة قد أراحت ومزكوم الغفلة ما يدري، سوق فيها ضجيج الهوى، فمن يسمع المواعظ‏.‏

علمتني بهجرها الصبر عنها *** فهي مشكورة على التقبيح

إذا أردت دواء حبها فما قل في الشربة صبر، انفرد في صومعة الزهد، واحفر خندق الحذر، وأقم حارس الورع، ولا تطلع من خوخة مسامحة فإن البغي في الفتى صناع‏.‏

لصردر‏:‏

النجاء النجاء من أرض نجد *** قبل أن يعلق الفؤاد بوجـد

كم خلى غدا إليه وأمسـى *** وهو يهوي بعلوة وبهـنـد

حصّن حصن التقى بسور القناعة، فإن لص الحرص يطلب ثمة، غريم الطبع متقاض ملح، والشره شرك، وخمار المنى داء قاتل، بينا الحرص يمد وتر الأمل انقطع، هل العيش إلا كأس مشوبة بالكدر ثم رسوتها الموت ‏"‏فابتغوا عند الله الرزق‏"‏‏.‏

قال محمد بن واسع لو رأيتم رجلاً في الجنة يبكي، أما كنتم تعجبون‏؟‏ قالوا بلى، قال‏:‏ فأعجب منه في الدنيا رجل يضحك ولا يدري إلى ما يصير‏؟‏ ضحك بعض الصالحين يوماً ثم انتبه لنفسه فقال‏:‏ تضحكين‏؟‏ وما جزت العقبة، والله لا ضحكت بعدها، حتى أعلم بماذا تقع الواقعة‏؟‏

يا نسيم الشمال بالله بلغ *** ما يقول المتيم المستهام

قل لأحبابنا فداكم محب *** ليس يسلو ومقلة لا تنام

كل عيش ولذة وسرور *** قبل لقياكم علي حرام

فرغ القوم قلوبهم من الشواغل، فضربت فيها سرادقات المحبوب، فأقاموا العيون تحرس تارة، وترش الأرض تارة، هيهات هان سهر الحراس لما علموا أن أصواتهم بسمع الملك‏.‏

لابن المعتز‏:‏

أيها الملك الذي سهـري فـيه*** كطعم الرقاد بل هو أحـلـى

غرضي ما يريده بي حبـيبـي*** لو سقاني مهلاً لما قلت مهلا

لست أدري أطال لـيلـي أم لا*** كيف يدري بذاك من يتقـلـى

إن العاشقين في قصر الـلـيل*** وفي طوله عن النوم شـغـلا

لو تفرغت لاستطـالة لـيلـي*** أو لرعي النجوم كنت مخـلا

وغرام الفؤاد مذ غبت عـنـه*** لم يحل عن هواك حاشى وكلا

قلوب العارفين، مملوءة بذكر الحبيب، ليس فيها سعة لغيره‏.‏

قد صيغ قلبي على مقدار حبهم *** فما لحب سواهم فيه متسـع

إن نطقوا فبذكره، وإن تحركوا فبأمره، وإن فرحوا فلقربه، وإن ترحوا فلعتبه‏.‏

والله ما طلعت شمس ولا غربـت*** إلا وأنت مني قلبي ووسـواسـي

ولا جلست إلى قـوم أحـدثـهـم*** إلا وأنت حديثي بـين جـلاسـي

ولا هممت بشرب الماء من عطش*** إلا رأيت خيالاً منك في الكـاس

أقواتهم ذكرى الحبيب، وأوقاتهم بالمناجاة تطيب، لا يصبرون عنه لحظة، ولا يتكلمون في غير رضاه بلفظة‏.‏

حياتي منك في روح الوصـال*** وصبري عنك من سلب المحال

وكيف الصبر عنك وأي صبـر*** لعطشان عن المـاء الـزلال

إذا لعب الرجال بكـل شـيء*** رأيت الحب يلعب بالـرجـال

كم تدرس أخبارهم وما تدرس، لئن طواهم الفناء لقد نشرهم الثناء، لو سمعتهم في الدجا يعجون، لو رأيتهم في الأسحار يضجون، لولا نسايم الرجاء كانوا ينضجون‏.‏

ما لي عن وصلك اصطبار*** إليك من هجرك الفـرارُ

أصبحتُ ظمآن ذا جفـون*** مياه أخلافـهـا غـزارُ

أرومُ كتمـان مـا ألاقـي*** وبالأماقي له اشـتـهـارُ

ومن نسيم الصبـا إذا مـا*** هبت على أرضكم أغـار

آه لذكرى ديار سـلـمـى*** لا أجدبت تلـكـم الـديار

لهفي لعيش بهـا تـولـي*** نظير أيامه الـنـضـارُ

إذ أعين الدهـر راقـدات*** وفي غضون الهوى ثمارُ